عمّان ــــ كوثر حمزة
من منا لا يتذكر أنشودة المطر تلك القصيدة التي حفرت كلماتها في أرواحنا لحناً أبدياً لا ينتهي وتهطل في ذاكرتنا كلما هطل المطر، مطر مطر مطر، هذه القصيدة العميقة التي فتحت القلوب على مأساة العراق ومأساة الشاعر التي انعكست مراياه في حروفها وهو يكتبها بالدمع والدم وهو بدر شاكر السياب الذي يقول في أنشودة المطر:
"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر"
إلى آخر المطر مطر مطر، الذي يبقى منهمرا في القصيدة الحساسة التي تخلدت في أذهان الأجيال إلى يومنا هذا فليس بالضرورة أن يقدم الشاعر أعمالاً كثيرة حتى ينال حب الجمهور وعاطفتهم، ولكن المهم أن يقدم أعمالاً قيمة وعميقة لا تمحى من الذاكرة.
هذا هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي ولد عام 1926 في قرية جيكور التابعة للبصرة العراقية، وقد كانت القرية معروفة ببساطتها وطبيعتها العذبة وبيوتها المبنية من الطوب وهذه البيئة البسيطة الخلابة البعيدة عن دون المدن وضجيجها أثرت في روح الشاعر وساعدت في تكوين شخصيته العاطفية الشعرية رغم الآلام الكثيرة التي مرت بها حياته وانعكست هي الأخرى على شعره، فالسياب كالمرآة لا يمكن أن يخفي من ملامحه شيئا، فهو دائما ما ينسكب على الورق وإن كان بأسلوب غير مباشر.
فقد السياب والدته وهو في عمر السادسة طفلا لم يفتح عينيه على الحياة، وظل يشعر بفقدانها وفقدانه لحنانها وعاطفتها حتى وافته المنية، عاش مع والده الذي تزوج بعد ذلك حتى صار الطفل بدر يشعر بالوحدة والحرمان، ومن آلامه موت جدته التي كانت ترعاه وكان شديد التعلق بها، ومر شاعرنا أيضا بحالات عشق لم تكتمل وهذا شكل لديه حرمانا آخر من المرأة التي كان يحتاج لوجودها في حياته، وآخر آلام السياب كانت المرض الذي ألمّ به في أواخر عمره حيث كان يشعر بآلام في ظهره استمرت حتى توفي عام 1964.
وفي مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها يذكر كل من الدكتور سيد رضا مير أحمدي والدكتور علي نجفي أيوكي ونجمة زادة بعضاً من الجوانب التي أثرت على السياب "إن بدر شاكر السياب عاش في حياتين منفصلتين، واحدة اجتماعية سوية مارس فيها نشاطه السياسي والوظيفي كالآخرين، وثانية عاطفية معقدة أرهقته، وأغرقته في لج الماضي فبدا منقسما وغير قادر على التوفيق بين شطريه".
ويعد بدر شاكر السياب أحد أهم رواد الشعر الحر الذين نادوا بتحرير الشعر من القوالب متأثرين في ذلك بالآداب الغربية، وقد درس السياب اللغة العربية في بغداد تمحيصا وبحثا ثم بعد فترة تحول إلى متخصص في اللغة الإنجليزية، وقد تخرج السياب من الجامعة عام 1948 وكان له ميول سياسية ويسارية واضحة سببت له مشاكل كثيرة في المستقبل، حيث كان مدافعا عن تحرير العراق وعن القضية الفلسطينية.
عمل بدر شاكر السياب في تعليم اللغة الإنجليزية في منطقة الرمادي في العراق ولكن بعد فترة تم فصله من عمله بسبب نزوعاته السياسية ودخل السجن بعدها وحين خرج السياب من السجن عمل أشغالا حرة ما بين البصرة وبغداد ثم سافر بعد ذلك إلى إيران فالكويت ولكنه عاد إلى بغداد عام 1945.
إن أكثر ما كان يحبه بدر شاكر السياب ويلهمه هي قريته جيكور القرية التي ولد فيها وترعرع في ضفافها، تلك القرية التي لم ينساها في لجة المدن التي سافرها والأماكن التي زارها، ظلت قريته جيكور هي المكان الوحيد الذي أغنى مخيلة الشاعر، فها هو يقول فيها في إحدى قصائده:
آه جيكور، جيكور؟
ما للضحى كالأصيل
يسحب النور مثل الجناح الكليل
ما لأكواخك المقفرة الكئيبة
يحبس الظل فيها نحيبه
كتب السياب كثيرا من الأعمال في حياته والتي جمعتها دار العودة بعد وفاته في عام 1971 في ديوان وهي أزهار ذابلة وأساطير والمومس العمياء وحفار القبور والأسلحة والأطفال وأنشودة المطر والمعبد الغريق وشناشيل ابنة الحلبي وغيرها من الدواوين التي جمعت في أعمال كاملة.
(البوصلة)